لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان، كجماعة الماديين في كل زمان، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري . . إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا ” تقدمية ” وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها، فجعل صفتهم المميزة، صفة: ” الذين يؤمنون بالغيب ” والحمد لله على نعمائه،
والنكسة للمنتكسين والمرتكسين! والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود، وأن وراء الكون ظاهره وخافيه، حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده . . حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول. وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له، وما لم توهب القدرة للإحاطة به، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له، وما لم توهب القدرة للإحاطة به، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه. إن الطاقة الفكرية التي وهبها الإنسان، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض، فهي موكلة ذه الحياة الواقعة القريبة، تنظر فيها، وتتعمقها وتتقصاها، وتعمل وتنتج، وتنمي هذه الحياة وتجملها، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود، وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول. فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها، دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة، وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول . . فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولا، ومحاولة عابثة أخيرا. فاشلة لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا الغيب وعابثه لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا . ومتى سلم العقل البشري بالبديهية العقلية الأولى، وهي أن المحدود لا يدرك المطلق، لزمه – احتراما لمنطقه ذاته – أن يسلم بأن إدراكه للمطلق مستحيل؛
وإن عدم إدراكه للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون؛ وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل؛ وأن يتلقى العلم في شأنه من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن،