اجتمع ليلة الأضحى خروفان من الأضاحي في دارنا: أما أحدهما فكبش أقرن، يحمل على رأسه من قرنيه العظيمين شجرة السنين، وقد انتهى سِمَنه حتى ضاق جلده بلحمه وأما الآخر فهو جَذَع في رأس الحول الأول من مولده، لم يدرك بعد أن يُضحَّى، ولكن جيء به للقَرَم إلى لحمه الغض؛ فالأول أضحية وهذا أَكُولة؛ وذاك يتصدق بلحمه كله على الفقراء، وهذا يتصدق بثلثيه ويبقى الثلث طعامًا لأهل الدار..
فلما أدبر النهار وأقبل الليل، جيء للخروفين بالكلأ من هذا البرسيم يعتلفانه، فأحس الكبش أن في الكلأ شيئًا لم يدر ما هو، وانقبضت نفسه لما كانت تنبسط إليه من قبل، وعرته كآبة من روحه، كأنما أدركت هذه الروح أنه آخر رزقه على الأرض فأراد الكبش أن يتفرج مما به، وينفس عن صدره شيئًا، وكان الصغير قد أنس إلى المكان والظلمة، وأقبل يعتلف ويَخْضِم الكلأ، فقال له الكبش: أراك فارهًا يابن أخي، كأنك لا تجد ما أجد؛ إني والله أعلم علمًا لا تعلمه، وإني لأحس أن القدر طريقه علينا في هذه الليلة، فهو مصبحنا ما من ذلك بد.
قال الصغير: أتعني الذئب؟ قال: ليته هو، فأنا لك به لو أنه الذئب؛ إن صوفي هذا درع من أظافره، وهو كالشبكة ينشب فيها الظفر ولا يتخلص، ومن قرنيَّ هذين تُرْس ورمح، فأنا واثق من إحراز نفسي في قتله، قال الصغير: فماذا تخشى بعد الذئب؟ إذا كانت العصا فهي إنما تضرب منك الصوف لا الظهر. وكيف تراني “ويحك” أخشى الذئب أو العصا، وأنا من سلالة الكبش الأسدي؟ قال الصغير: وما الكبش الأسدي، وكيف علمت أنك من نَجْله، ولا علم لي أنا إلا هذا الكلأ والعلف والماء والمراح والمغدى؟ قال الكبش: لقد أدركت أمي وهي نعجة قَحْمة كبيرة،حدثتني أمي، عن أبيها، عن أبيه، قالت: إن فخر جنسنا من الغنم يرجع إلى كبش الفداء الذي فدى الله به إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- وذبح وكان كبشًا أبيض أقرن أعين، قال الصغير للكبش: قلت: الذبح، والفداء من الذبح؛ فما الذبح؟ قال الكبش: هذه السنة الجارية بعد جدنا الأعظم، وهي الباقية آخر الدهر؛ فينبغي لكل منا أن يكون فداء لابن آدم! قال الصغير: ابن آدم هذا الذي يخدمنا ويحتزّ لنا الكلأ، ويقدم لنا العلف، ويمشي وراءنا فنسحبه إلى هنا وههنا؟ تالله ما أظن الدنيا إلا قد انقلبت، أو لا، فأنت يا أخا جدي قد كبرت وخرفت! فهز الكبش رأسه فعل من يريد الابتسام ولا يستطيعه، قال: اسمع أيها الأبله! إن شمس الغد ستشعر بها من تحتك لا من فوقك. لقد رأيت أخي مذ كنت جذعًا مثلك؛ ورأيت صاحبنا الذي كان يعلفه ويسمنه قد أخذه، فأضجعه، فجثم على صدره شرا من الذئب، وجاء بشفرة بيضاء لامعة، فجرها على حلقه، فإذا دمه يسخب ويتفجر، وجعل المسكين ينتفض ويَدْحَص برجليه، ثم سكن وبَردَ؛ فقام الرجل ففصل عنقه وهذا -أيها الأبله- هو الذبح والسلخ!
قال الصغير: وما الذي أحدث هذا كله؟ قال: الشفرة البيضاء التي يسمونها السكين قال الصغير: فقد كانت الشفرة عند حلقه حيال فمه؛ فلماذا لم ينتزعها فيأكلها؟ قال الكبش: أيها الأبله الذي لا يعلم شيئًا ولا يحفظ شيئًا، لو كانت خضراء لأكلها!: ما أدري والله كيف أفهمك أن هذا كله سيجري عليك، فسترى أمورًا تنكرها، فتعرف ما الذبح والسلخ، ثم تصير أشلاء في القدور تُضرم عليها النار، فيأكلك ابن آدم كما تأكل أنت هذا الكلأ!
قال الصغير: وماذا علي أن يأكلني ابن آدم، ألا تراني آكل العشب، فهل سمعت عودًا منه يقول: الرجل والسكين، والذبح والسلخ؟
قال الكبش في نفسه: لعمري إن قوة الشباب في الشباب أقوى من حكمة الشيوخ في الشيوخ، وما نَفْع الحكمة إذا لم تكن إلا رأيًا له ما يمضيه، وما جدوى أن يعرف الكبير حكمة الموت، وهو من الضعف بحيث تنكسر نفسه للمرض الهين، فضلًا عن المرض المعضل، فضلًا عن المرض المزمن، فضلًا عن الموت نفسه؛ وما خطر أن يجهل الشباب تلك الحكمة، وهو من قوة النفس بحيث لا يبالي الموت، فضلًا عن المرض؟
وقد, والله, صدق هذا الجَذَع الصغير؛ فما على أحدنا أن يأكله الإنسان, وهل أكلنا نحن هذا العشب، وأكل الإنسان إيانا، وأكل الموت للإنسان, هل كل ذلك إلا وضع للخاتمة في شكل من أشكالها؟ وهل أوجب نفقتي على الإنسان إلا لحمي؟ فإذا استحق له, فلعمري ما ينبغي لي أن أزعم أنه ظلمني اللحم إلا إذا أقررت على نفسي بديا أني أنا ظلمته العلف وسرقته منه إن الإنسان يستطيب لحمنا، ويتغذى بنا، ويعيش علينا, فما أسعدنا أن نكون لغيرنا فائدة وحياة، لقد صدقت والله، ونحن بهذا أعقل وأشرف من الإنسان؛ فإنه يقضي العمر آخذًا لنفسه، متكالبًا على حظها، ولا يعطي منها إلا بالقهر والغلبة والخوف. تعال أيها الذابح، تعال خذ هذا اللحم وهذا الشحم؛ تعال أيها الإنسان لنعطيك؛ تعال أيها الشحاذ