تعالى النهار ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه المبارك مع أصحابه إذ أقبل عليه قوم من الأعراب قطعوا مسافة شاسعة، وشقة بعيدة؛ ليفدوا إلى الرسول الذي آمنوا به واتبعوه، نظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآهم حفاة الأقدام، عراة الأجسام، ليس عليهم ما يُلبس من الثياب، إنما هي أكسية قد شقوا أوساطها ثم شدوها عليهم، أو عباءٌ التحفوها تستر بعض أجساد هزلى قد أمضها التعب، وأضناها الجهد، وذوت من القلة والجوع .
نظر نبيك إلى هذه الأجساد العارية المجهودة فإذا بوجهه الكريم يتلون ويتقبض تألماً وشفقة عليهم، ورحمة بهم، لما يرى بهم من الفاقة والجهد، ثم توجه مسارعاً إلى بيته فلبث فيه ما شاء الله أن يلبث ثم خرج فأمر بلالاً فأذن، ثم أقام فصلى بالناس الظهر ثم صعد منبره وخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الله أنزل في كتابه “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً” و “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون” تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره” حتى قال:”ولو بشق تمرة” فحث الناس على الصدقة ورغبهم فيها ثم جلس ينتظر صدقات أصحابه لإخوانهم الوافدين على جهد وفاقة، فأبطئوا عنه ومرت لحظات الانتظار متثاقلة بطيئة ورسول الله يعيش قلق الترقب باهتمام الراحم الشفوق حتى رئي أثر ذلك في وجهه الكريم المبارك، فبينا هو كذلك إذ جاء رجل من الأنصار بصرة من فضة تملأ ما بين أصابعه حتى كادت كفه أن تعجز عنها بل قد عجزت، فقال: يا رسول الله هذه في سبيل الله عز وجل، وإذا بهذه البادرة تكسر ثقل الانتظار وقلق الترقب وتستنفر الناس لما سبق إليه هذا الرجل فقام أبو بكر فأعطى، ثم قام عمر فأعطى، ثم قام المهاجرين فأعطوا، وتتابع الناس حتى كان بين يدي رسول الله كومين من طعام وثياب، فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرى فيه ماء السرور، فإذا وجناته تبرق، وإذا وجهه – وكان أبيض وضيئاً مشرباً بحمره- يضيء كأنه آنية فضة مطهمة بالذهب، فرحاً وسروراً بعطاء أصحابه لهؤلاء الفقراء الذين أتوا على جهد وفاقه.
نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أكوام الطعام والثياب أمامه ولكن المنظر الذي ظل حاضراً أمام عينيه وفي قلبه هو منظر ذاك الرجل الذي أتى بالصرة في كفه ليقطع صمت الترقب والانتظار، وليستثير في النفوس توثب المسارعة إلى الخير، كان منظره هو الحاضر وكان موقفه هو المؤهل للإشادة والثناء، فأقبل صلى الله عليه وسلم على أصحابه محيياً المبادر والمبادرة قائلاً: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء”
*** نقف أمام هذا المشهد إذ تستوقفنا معان مهمة :-
1- يشدنا كثيراً مشهد التفاعل العاطفي من النبي صلى الله عليه وسلم لحاجات الناس، وهذا التأثر النفسي العميق لمعاناتهم، والذي طفح على وجهه الكريم بحيث رأى الصحابة تلون وجهه ألماً لما رأى بهؤلاء القادمين من الفاقة والجهد، ثم تلون وجهه كرباً لما رأى إبطاء الصحابة في الصدقة، ثم ذاك البشر الغامر الذي طفح على وجهه حتى أشرق محياه المبارك، وتلألأ وجهه سروراً وبشراً لا لشيء إلا لأن حاجة هؤلاء الفقراء قد قضيت، وخلتهم قد سدت، إن تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم ألماً ثم استنارته فرحاً لحال هؤلاء يبين عمق الإحساس الوجداني لآلام الناس ومعاناتهم، وأنها من قلب النبي صلى الله عليه وسلم بمكان، بحيث تضج في وجدانه، ويرى أثرها على محياه، ويقرأها أصحابه على قسمات وجهه.
إن نبيك صلى الله عليه وسلم يتأثر هذا التأثر لأناس قدموا عليه للتو، هذا أول لقاء له بهم، وأول تعرف منه عليهم، إنها الرحمة التي تملأ جوانحه فهو الذي وصفه ربه بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وأنه رحمة للعالمين. فهنيئاً لكل مؤمن رحيم رقيق القلب أنه يقفو أثر نبيه ويتحلى بكريم صفاته.
2- إن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تأثر هذا التأثر قد بادر من فوره بالتجاوب العملي مع مشاعره المرهفة فكان أول شيء صنعه أن بدأ بنفسه أولاً، ولذا سارع إلى بيته فدخله، ولا نحسب إلا أنه دخله يبحث فيه عما يبادر به حاجة هؤلاء الفقراء.
ولكن ماذا سيجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته الذي تمضي فيه شهران تباعاً لم توقد فيه نار، ماذا سيجد في بيت متقارب الجدر قليل المتاع قد زويت عنه كثير من مباهج الدنيا ومتعها. ولذا خرج من بيته وليس معه شيء؛ لأنه لم يجد شيئاً، ولكن البداءة كانت بنفسه والمدخل الأول إلى بيته، وكان السابق إلى كل خير بفعاله قبل مقاله والبادئ بنفسه قبل غيره، والسابق إلى كل خير أمر به.
إن النبي الذي خطب فحث على الصدقة هو الذي كان يقسم المال حثواً في الثياب، وهو الذي أعطى رجلاً غنماً بين جبلين عطاء من لا يخشى الفقر ، وهو الذي قال ” لو كان لي مثل أحد ذهباً لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء، إلا شيئا أرصده لدين ” ثم ودع الدنيا وهو يقول: ” نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة ” لقد كان صلى الله عليه وسلم أفصح الناس وأنصعهم بياناً ولكن بيان أفعاله أبين، وبلاغة حاله أبلغ.
3- ظهر من صنيع ذلك الأنصاري الذي سارع بالصرة يلقيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر المبادرة الإيجابية وأهميتها، لقد تسارع الناس بعده وربما كان عطاء من بعده أكثر من عطاءه، ولكنه كان سابقاً في سن السنة الحسنة، مبادراً إلى الخير، فاتحاً لطريق المعروف، ولذا عقب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن اجتمع بين يديه كل ما اجتمع بهذه الجملة التي تنصرف له بداية وتحيى مبادرته وتزكيها.
4- لم تذكر روايات هذا الحديث اسم هذا الرجل المبادر بغير وصفه أنه من الأنصار مما يدل أنه لم يكن من ذوي الشهرة فيهم، مع أنه كان في المجلس أبو بكر وعمر والسابقون من المهاجرين، وهذا يبين أن لا يحقر أحد نفسه عن المبادرة الإيجابية، فهذا الرجل لم يعقه عن مبادرته وجود أهل السابقة والخيرية ولكنه توثب إلى الخير وبادر إليه مسارعاً وسابقاً فكان له مثل أجر كل من جاء بعده وإن كانوا أفضل منه وأوفر عطاء.
5- لم يكن إبطاء الصحابة شحاً – وحاشاهم- فهم الذين وقاهم الله شح أنفسهم وأخبر أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ولكن لعل ذلك الإبطاء كان تراخياً في الذهاب وتردداً في المقدار، فلما بادر الرجل إلى الإنفاق بصرة من فضه كانت مبادرته حظاً للإسراع بالعطاء ورفعاً لمقدار المشاركة، ولذا كانت السنة الحسنة له السبق المحرك للبطء والسخاء المضاعف للعطاء.
6- ” من سنَّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء” . إن هذه الجملة النبوية الكريمة في هذا المساق تبين الأثر العظيم والثمرة المباركة لمبادرات الخير، وإن المتأمل لحياة العظماء والمؤثرين والمصلحين يجدها سلسلة متابعة من المبادرات الإيجابية، ولذا أثروا تأثيرهم وأبقوا أثرهم، ولقد رأينا في حياة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله نموذجاً لروح المبادرة، فلا تلوح ثمة فرصة للخير إلا توثب إليها، إن الرسوخ العلمي لم يكن ميزة الشيخ ولكنه كان أحد مزاياه، أما مزيته فكانت المبادرة الإيجابية بحيث أبقى من بعده مشاريع قائمة وطرقاً للخير سالكه.